نظرية الغرس الثقافى
شهدت الولايات المتحدة الأمريكية البدايات الأولى لنظرية الغرس خلال عقد السبعينيات من القرن الماضى كمنظور جديد يدرس تأثير وسائل الإعلام حيث ركزت هذه النظرية على التأثير بعيد المدى لوسائل الإعلام.
ترجع أصول تلك إلى جورج جربنر العالم الأمريكى من خلال ما تناوله فى مشروعه الخاص بالمؤشرات الثقافية حيث تناول قضايا متداخلة تتمثل فى دراسة الهياكل والضغوط والعمليات التى تؤثر على إنتاج الرسائل الإعلامية ودراسة الرسائل والقيم والصور الذهنية التى تقدمها وسائل الإعلام ودراسة مساهمة الرسائل الجماهيرية المستقلة فى إدراك الأفراد للواقع الاجتماعى.
وتنطلق
نظرية الغرس الثقافى من اعتبار أن الأفراد الذين
يتعرضون لمشاهدة التليفزيون بدرجة كثيفة هم أكثر قدرة على تبني معتقدات مرتبة بالواقع الاجتماعي تكون متوافقة مع الصور الذهنية والنماذج
والأفكار التي يعكسها التليفزيون حول الواقع ، وهو ما يؤكد دور التليفزيون وأهميته فى بناء وتشكيل صورة الأفراد عن
الواقع الاجتماعى فى كافة جوانبه.
ويعرف الغرس بأنه تعلم عرضى ناتج عن تراكم التعرض لوسائل الإعلام خاصة التلفزيون ويرى منظروا نظرية الغرس أن وسائل الاتصال الجماهيرى لها تأثير قوي على تصورات الجمهور للعالم الخارجى خاصة مع كثافة التعرض، ومن ثم فإن الصورة الذهنية السائدة لدى جماعة ما هى نتيجة تراكمية لرسائل اتصالية معينة.
ويعرف جربنر الغرس بأنه ما تفعله الثقافة بنا باعتبارها الوسط أو المجال الذى يعيش فيه الفرد ويتعلم منها بمعنى أن البيئة الثقافية بأدواتها المختلفة هى التى تقوم بعملية إكساب وتشكيل وبناء المفاهيم والرموز الثقافية فى المجتمع ووسائل الإعلام من هذه الأدوات .
ونظرية الغرس تعد تطوير لعملية بناء المعانى وتكوين الحقائق الاجتماعية والتعلم بواسطة الملاحظة ودور وسائل الإعلام فى تلك المجالات ، ووفقا لنظرية الغرس تؤدى مشاهدة التلفزيون إلى تبنى اعتقادات معينة عن طبيعة العالم الاجتماعى وقوة التلفزيون تتمثل فى الصور الرمزية التى يعرضها فى محتواه الدرامى عن الحياة الحقيقية ويتم التأثير هنا من خلال التعليم ثم بناء وجهات النظر عن الحقائق الاجتماعية فى عملية تفاعل متبادل بين الرسالة والمتلقين.
ويؤكد جربنر على أن العلاقة بين وسائل الإعلام وعملية الغرس تتضمن عناصر أساسية هى : العمليات المؤسسية الكامنة وراء إنتاج المحتوى الإعلامى والصورة الذهنية التى ترسمها وسائل الإعلام والعلاقة بين التعرض للتلفزيون ومعتقدات الجمهور وأنماط سلوكه .
ويشير مورجان إلى أن نظرية الغرس ثقافية فى المقام الأول هدفها تحديد مدى مساهمة رسالة معينة فى إدراك الواقع الاجتماعى بطريقة مشابهة للمفاهيم التى تنقلها هذه الرسالة لذلك يعرف الغرس بأنه الإسهام المحدد والمستقل الذى تساهم به وسائل الإعلام فى عمليات التنشئة الاجتماعية والتثقيف ،وترتكز النظرية على متغيرين أساسيين : المتغير المستقل والذى يشمل عادات ونمط المشاهدة والمتغير التابع الذى يشمل المعتقدات والاتجاهات والقيم الثقافية.
وتقوم نظرية الغرس الثقافى على عدة افتراضات أساسية :
أولا بالمقارنة بوسائل الاتصال الجماهيرى الأخرى يعد التليفزيون وسيلة غرس فريدة ومتميزة لأنه على المستوى الاجتماعى يكون الواقع لجميع الفئات والطبقات والأعمار من منظور واحد كما أنه وسيلة أساسية تنقل المعايير السائدة والصور الذهنية ويتميز بقدرته على توحيد الأنماط الثقافية وتشكيل الاتجاه السائد.
ثانيا تشكل الرسائل التى يقدمها التليفزيون نظام ثقافي متجانس يعبر عن الاتجاه السائد فى ثقافة المجتمع فالغرس كعملية ثقافية يرتبط بإطار متماسك من المعلومات ومعانى المفاهيم العامة التى تتضمن استجابات إلى أسئلة معينة أكثر من ارتباطه بحقائق ومعتقدات معزولة ، ويتم غرس هذه المفاهيم العامة عبر التعرض الكلى إلى العالم الذى يقدمه التليفزيون أكثر من التعرض إلى برامج مختارة .
يحدث التعرض المتكرر للتليفزيون نوع من التجانس بين مختلف الجماعات الاجتماعية مما يؤدى إلى ذوبان الاختلافات الاجتماعية بغض النظر عن مستويات تفضيلهم وذلك نتيجة التشابه والتوحد فى الأفكار والعناصر الدرامية التى يعرضها التليفزيون بشكل عام .
ثالثا يقدم تحليل رسائل التليفزيون علامات لعملية الغرس حيث أن أسئلة المسح المستخدمة فى بحوث الغرس الثقافى تعكس الاتجاه السائد الذى تجسده رسائل التليفزيون لجماهير ضخمة من المشاهدين خلال فترات متباعدة ،وقد يؤدى استخدام المعلومات التى تقيس أفضليات المشاهدة بدلا من قياس حجم المشاهدة الكلية إلى نتائج مضللة لذلك يجب أن تتجه الأسئلة نحو اعتبارات الواقع الحقيقى .
رابعا يرتكز تحليل الغرس على النتائج الخاصة بانتشار الاستقرار والانسجام بين أفراد المجتمع حيث يتميز التليفزيون بقدرته على تحقيق الانسجام بين مشاهديه والتجانس بين الفئات التى قد تكون مختلفة فى الخصائص الديموغرافية أو المعرفية، وذلك من خلال تقديم الاتجاه الثقافى السائد ومن ثم يعمل التليفزيون على استقرار المجتمع من خلال الصور الرمزية التى يقدمها عن العالم .
وبالتالى فإن نتائج تحليل الغرس سوف تميل نحو التجانس والاستقرار ومقاومة التغيير الذى قد يحدث فى أى جانب من جوانب الحياة أو الثقافة، ويرى جربنر أن الواقع المتجسد فى الرسائل التليفزيونية يختلف عن الواقع الذى يعيشه الأفراد ولكن التعرض المستمر لها يؤدى إلى تبنيها والتسليم بأنها تعكس واقع المجتمع .
خامسا المستحدثات والابتكارات التكنولوجية تزيد من وصول الرسائل التليفزيونية إلى الجمهور حيث يعتقد جربنر أن نظم التليفزيون السلكى والمحطات المستقلة والفيديو قد أعطت للمشاهدين تحكم أكبر فى تلقى البرامج وأن التعرض لهذه الرسائل قد يحل محل قراءة الجريدة أو الذهاب للسينما.
سادسا يركز تحليل الغرس الثقافى على تحديد مدى مساهمة وسائل الإعلام فى تشكيل تفكير الجمهور واتجاهاته نحو مختلف القضايا من خلال عملية التعرض التراكمى على فترة زمنية طويلة .
وتربط نظرية الغرس الثقافى بين كثافة التعرض للتليفزيون واكتساب المعانى والمعتقدات والأفكار والصور الرمزية حول ما تقدمه وسائل الإعلام بعيدا عن العالم الواقعى .
فمشاهدة التليفزيون تؤدى إلى تبنى اعتقاد حول طبيعة العالم الاجتماعى وتأكيد الصور النمطية ووجهة النظر المنتقاة التى يتم عرضها فى الرسائل التليفزيونية، والتأثير هنا ليس تأثير مباشر حيث يقوم أولا على التعلم ثم بناء وجهات النظر حول الحقائق الاجتماعية بحيث يمكن اعتبارها عملية تفاعل بين الرسائل والمتلقين .
من أهم مفاهيم النظرية :
التعلم : ويشير إلى مدى شعور المشاهدين أن محتوى التليفزيون يتيح ويقدم لهم معلومات فى العديد من الموضوعات واستخدام هذه المعلومات فى الحياة الحقيقية.
التوحد : ويشير إلى العلاقة بين المتلقى والشخصيات التليفزيونية والانطباعات التى تتركها لديه وخلق شعور بأن هذه الشخصيات التليفزيونية واقعية وتشبه بعض الشخصيات فى العالم الحقيقى.
الاتجاه السائد : ويعنى الاتجاه السائد التجانس بين ذو درجة الكثافة الواحدة فى اكتساب خصائص ثقافية مشتركة للمجتمع التى يقدمها التليفزيون ومن ثم فالاتجاه هو نسيج من المعتقدات والقيم والممارسات التى يعرضها التليفزيون فى صور وأشكال مختلفة ويتوحد معها كثيفو المشاهدة ولا تظهرفروق كبيرة بينهم فى اكتساب هذه الصور باختلاف الخصائص الاجتماعية والسياسية .
فالاتجاه السائد يشير إلى سيطرة التليفزيون فى غرس صور وأفكار وقيم بالشكل الذى يقلل أو يخفى الاختلافات والفروق بين الجماعات ذات الخصائص المختلفة.
الصدى أو الرنين : يقصد بالرنين تلك التأثيرات المضافة للمشاهدة بجانب الخبرات الأصلية التى مر بها المشاهد حيث أن المشاهد قد مر بإحدى التجارب المقدمة على شاشة التليفزيون، وهذا يشعره بقيمة وعمق التجربة وبالتالى يمكن أن تؤكد المشاهدة هذه الخبرات من خلال استدعائها بواسطة الأعمال التليفزيونية التى يتعرض لها الأفراد أصحاب هذه الخبرات بكثافة أعلى.
النافذة السحرية : وهى التى لا يستطيع فيها المشاهدين التمييز بين الحقيقة والخيال حيث يعتقد المشاهدين أن الصور التى يشاهدونها فى التليفزيون هى نفس الصور الموجودة فى الواقع الحقيقى وأن التليفزيون هو النافذة السحرية التى تعكس لهم هذا الواقع .
تعليقات
إرسال تعليق